الأحد، 19 أغسطس 2012

الحب الإلهي.. محراب القلوب الولهة ( في حلقات)


الحلقة الأخيرة: شعر الحب الإلهي بين التوسل بالمرأة والمناجاة المباشرة

الحب الإلهي سفر طويل إلى الله سبحانه، يتلذذ العاشق المحب و يطيب له عيشه به، فالمحب يتلذذ بكل ما يرد عليه من المحبوب من مكروه أو محبوب، فمحبة العبد لله تعظيم يحل الأسرار، فلا يستجير تعظيم سواه،
كما أن المحبة نار، والشوق لهيبها... أوحى الله إلى داود عليه السلام: يا داود من طالبني قتلته في هواي شوقا إلى لقاي، ومن أحبني أحببته، أي أشغفته حتى لا صبر له دوني.
قال ذو النون رحمه الله:
 و تمنيت أن أراك فلما رأيتك             غلبت دهشة السرور فلم أملك البكا
عند مطالعتنا لتراث الشعر الصوفي في الحب الإلهي نجد أن المتصوفة في تعبيرهم عن الحب الإلهي عبروا بطريقتين مختلفتين، فهناك النوع الأول من الشعراء المتصوفة الذين عبروا عن حبهم الإلهي متوسلين بالمرأة فاتخذوا من الأنثى رمزا موحيا دالا عن حبهم الإلهي، وحاولوا التأليف بينهما، لأن المرأة تمثل رمزا من رموز الجمال المطلق، وحين يبثها الشاعر وجده، فإنما هو في الحقيقة يعبر عما ترمز إليه من قيم الحق والجمال.
و نسوق هنا نموذج لأشعار ابن عربي و ابن الفارض وغيرهما، ممن وظفوا رمز المرأة للتعبير عن الذات الإلهية، فتغزلوا بها معبرين عن حبهم لله، جاعلين من التغزل بالنساء والتشبيب بهن أداة لتعشق النفوس هذه العبارات، كما عبر في ديوانه "ترجمان الأشواق" عن تجربته الشخصية من خلال قصائد غزلية يتحدث فيها عن الجمال الأنثوي، فيستحضر رمز المرأة من خلال شخصية "النظام" التي ألهمته قصائده الغنائية المرموزة، فآثرت فيه حبا عفا نقيا تجلى في مذهبه في العشق الإلهي:
يقــول:
مرضي من مريضة الأجفان           عللاني بذكرهـا عللانـي
هفت الورق بالرياض وناحت         شجو هذا الحمام مما شجاني
الصوفيون الشعراء الذين ذكروا المرأة في شعرهم، نظروا إليها نظرة تجريدية ميتافيزيقية، لم يحفلوا خلالها بالأشكال العادية، وإنما كان احتفالهم بالمفاهيم الرحبة التي ترتبط بقدرة هذه الأشكال على الرمز عما يكن بداخلهم من مشاعر الحب المشتعل تجاه محبوبتهم التي لا يريدون التصريح بحبهم لها، وهذا هيأ لهم الحرية والانطلاق في عالم من الجمال المطلق الذي يشير إلى الأبدية أو اللانهائية، هكذا يستطيع الشاعر عن طريق رمز الأنثى أن يخترق حجب الحقيقة إلى الفردوس البعيد، ناقلا رؤياه للآخرين متجاوزا الواقع إلى الحقيقة اللامتناهية.
 أما النوع الثاني من هؤلاء الشعراء فقد عبر عن حبه الإلهي موجها الخطاب مباشرة إلى الله عز وجل، فناجاه، وأنشد على أعتابه قصائد الحب، خاطبه باكيا متضرعا متذللا ببابه، ذارفا دموع العشق ولوعة الألم اللذيذ، ألم الذوبان من حر اللقاء، حيث تسمع زفراته وأناته، وهذا الحب هو متبادل بين العبد وربه، مصداقا لما جاء في الحديث الشريف "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه".
وهذه المناجاة ساقها الشعراء المتصوفة على شكل ابتهالات واستغاثات ودموع،  ليبينوا من خلالها مدى محبتهم لله تعالى، لا خوفا ولا طمعا بشيء غير الله نفسه، وتلك المحبة التي تريد الله وحدها "تجعل العبد حرا، أي عبدا لله وحده". ونسوق كنموذج شعر الزاهدة العابدة رابعة العدوية، تقول فيه:
أحبك حبيـن حب الهــوى          وحب لأنــك أهــل لذاكـا
فأما الـذي هو حب الهـوى          فحب شغلت به عمـن سواكـا
وأما الذي أنـت أهل لــه           فكشفك لي الحجب حتى أراكـا
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي            ولكن لك الحمد في ذا وذاكــا
أما الحلاج فقد أحب ربه إلى حد الفناء فيه، وجاء شعره تعبيرا عن وجدان عميق عنيف، وصور لمعان خاصة، أثرت في نفسه، وتحكمت في نفسيته، وقد شعر بها وتمثلت أمامه عندما تغلغل في قلبه هذا الحب الإلهي، فصاح كالمجنون الذي أفقدته عاطفته صوابه عاجزا إذ ذاك عن التفريق بين الحب والمحبوب "أنا الحق"، هذه العبارة التي من أجلها لاقى حتفه بإيمان شديد، ورحابة صدر لا نجدها إلا عند الصوفيين المخلصين.
يقول في الحبيب الإلهي رامزا له بالرشا:
يا نسيم الريـح قولـي للرشـا         لم يزدني الـورد إلا عطشـا
لي حبيب حبه وسط الحشــا         لو يشى يمشي على خدي مشا
روحه روحي وروحي روحه           إن يشا شئت وإن شئت يشـا
لقد جسد الصوفي من خلال هذا الشعر مأساته في الحب، وإشراقات وجدانه، وتألمه وحشة الهجر والفراق، واغتراب نفسه، كل هذا هو الإطار الذي لا تخرج عنه معزوفة الشعر الصوفي التي تعزف لحن الفراق، والشاعر يبذل مجاهدات مضنية تميته وتحييه حتى يدخل إلى مائدة العشق  الإلهي، وكل من امتلأ قلبه الحب الحقيقي يجد الطمأنينية والسعادة بالأنس إلى الله تعالى.
إن النفس الإنسانية إذن، تبقى مأخوذة بالجمال الإلهي المنعكس في الموجودات، فتحب الله في كل شيء من أجل الله، فالحب الإلهي ينقلنا إلى الآفاق السامية للنزاهة ابتغاء الفناء في المحبوب الأعلى.

هناك تعليقان (2):

  1. كلام يهز القلوب ويدمع العيون

    ردحذف
  2. يا قلبُ!أنتَ وعدتَني في حُبّهمْ
    صبراً فحاذرْ أنْ تضيقَ وتضجرا

    ردحذف