الاثنين، 17 مارس 2014

طريق قصير..




         مات جدي.. ثم بعده بسنوات ماتت جدتي.. لم ينتظروا طويلا ليبيعوا بيت العائلة الكبير.. باعوه بثمن بخس.. وشجرة الصنوبر الكبيرة التي كانت تتوسط حديقته لم يعد لها وجود.. كل نباتات الحديقة العشوائية الخضراء اختفت. ذات يوم، جاء المقاول هدموا البيت العتيق.. هدموا الذكريات ودكوها دكا.. صور جدي باﻷبيض واﻷسود على جدران غرفة الجلوس.. والبئر المهملة في وسط الفناء.. ضحكاتنا ونحن صغار.. كؤوس الشاي بعد صلاة العصر وأطباق "الاسفنج" المقلي في الزيت.. كلمات الخالات، همومهن الصغيرة.. جلسات ما بعد العصر لها طعم خاص.. جلسات تفريغ نفسي بامتياز كن يمارسنها بعفوية بدائية.. تتوسط الجدة الجلسة. تسائل بناتها عن أحوال الأزواج واﻷبناء فيبدأن بالسرد في طقوس خاصة .. نصيحة هنا وهناك. همسة هنا تنهيدة هناك.. وفي المساء يجمعن الأولاد ويعدن إلى بيوتهن بخفة غير معهودة.. بسعادة مرسومة على الشفاه وقد آتت جلسة العلاج الجماعي أكلها.. كان كل شيء عفوبا.. بسبطا..  كفلم كلاسيكي مخدوش المشاهد..
         رحل الكبار.. وحين يغيب الكبار يتطاول الصغار على بعضهم.. بتخاصمون.. يتعادون.. باعوا البيت بدراهم معدودات.. انتصبت مكانه عمارة ساخرة.. من اﻷسمنت المسلح اﻷسود..
         أشتاق لرائحة الجير اﻷبيض يطلي جدران الغرف الموصدة المرتبة دائما وأبدا.. لكل الطيور التي اتخذت أعشاشا لها على أشجار الحديقة.. لذلك القط الهرم اﻷبيض الرمادي..  كان يزور البيت كل مساء ليأخذ  نصيبه من قوت يومه.. أما في الظهيرة فكان بتمطى على حافة السور..أو يستظل بأغصان اﻷشجار.. حاولوا إبعاده مرارا عن المنزل.. وبشتى الطرق.. لكنه كان يعود وبطرقه الخاصة أيضا.. حتى تيقن الجميع من استحالة افتراقه عن العائلة..فاستمروا يضعون له بقايا الطعام على جذع الشجرة.. ترى أين هو اﻵن.. ألا زال يتذكرني ؟ ألا زال يتذكر شغبنا الطفولي ومقالبنا الصغيرة له؟                      
         روائح كؤوس  الشاي لازالت تعبق في فضاء الذاكرة.. كل اﻷصوات واﻷلوان.. صورة جدي وهو يمنحنا بضع دريهمات نجري لنمنحها لأقرب دكان مقابل قطع الحلوى الصغيرة... وإن كان الجو صيفا نجري ممسكين بأيدي بعضنا البعض لنعبر الشارع الكبير.. هناك المحل الكبير  لبيع المثلجات.. نعود بغنائمنا الصغيرة لنقتنص لذة السعادة الكبيرة التي تنتهي مع آخر لَعْقة للقطعة الخشبية..  
      
كلهم تفرقوا.. فرقت بينهم الحياة بمتاعبها الحديثة..
         فرقت بينهم الضغائن الصغيرة.. والإرث فعل فعلته.. علت اﻷصوات على بعضها.. شتموا بعضهم.. ثم القطيعة .. القط الهرم كان بتفرج بصمت الحكماء .. ويشيح وجهه عنهم..شمت الشامتون، وتهامسوا عليهم.. وهم يفكرون كم سيجني كل من نصيب مالي، وأين سيبذره..
 حتى صغار الأمس الذين تقاسموا كل شيء فرقت بينهم اليوم همومهم الصغيرة.. كبروا وأصبحت لهم عوالهم المختلفة.. لقاءاتهم التي كانت تنسجها البراءة ويحضنها البيت العتيق أصبحت تتم على شاشات الحاسوب.. عليها أصبحوا بوزعون "الجيمات".. وبضع تعليقات تحاول رَتْق ما تبقى من خيوط ذكريات عالقة بطعم الشجن.. لا صورة للابتسامات، لا لون للفرح، ولا صوت للضحكات الصاخبة.. هي بضع نقرات على لوحة المفاتيح تحاول إنقاذ ما تبقى من دموع الرحم..في محاولة لربط خيوط الماضي بالحاضر..
مات جدي.. وبعده بسنوات ماتت جدتي.. وآخرون مروا من هنا.. من هذا الطريق الطويل القصير..

هناك تعليقان (2):