الثلاثاء، 31 ديسمبر 2013

سنة بطعم الهزيمة !..


حاولت كما في عالم المال والأعمال أن أقوم بعملية جرد عند نهاية السنة، كما يقومون هم  بجرد لأرباحهم ، حاولت لكني وللأسف.. لم أجد بعد جردي لحصيلة 2013 إلا الخسارات !..
أستطيع أن أقول أن هذه السنة 2013 كانت فعلا بالنسبة لي سنة بطعم الهزيمة..
هذه السنة فقدت أشياء كثيرة، كان آخرها صمام الأمان عندي.. أمي..
 كم اشتقت إليك يا "ماما".. كم سأحتاج من الوقت لأتعود غيابك.. لأتعلم ألا أشتاقك.. هل ستكفيني ملأى الأرض مراثي شعرا ونثرا؟..
حسنا، سألملم دموعي.. ولن أبكي كما طلبت مني..
 لا أحب أن أتذكر نهاية السنة، فذكراها لم تعد تعني لي شيئا منذ مدة.. كلما دقت الثانية عشرة بعد منتصف الليل، تذكرت ساعة أبي اليدوية التي توقفت عن النبض ذات ليلة من نهاية 2008، كان حينها الناس يحتفلون، يشربون الفودكا، أو يرقصون في البارات.. أو يقطعون حلوى الشوكولاطة في بيوتهم.. لكنهم كانوا يحتفلون.. وكنت حينها أحتفل مع الموت، كنا نشرب معا نخب نهاية السنة، رقصنا، وقطعنا قلوبنا قطعا صغيرة.. بطعم الشكولاطة، والتوت، والفانيلا... وكل النكهات..ضحكنا.. سكرنا، وتعالت قهقهاتنا حتى ذرفنا دموعا كثيرة..
ليست أحزاني كبيرة بما يكفي.. فالموت وزع هداياه في كل أنحاء العالم..
هذه السنة كانت سوداء بكل المقاييس، الدول تفننت في قتل مواطنيها، مرة بالقنابل، ومرة ببراميل المتفجرات، وحين تأثرت قلوبهم لمرأى الدم سلطوا عليهم الكيماويات فابتسموا بصمت.. وناموا نومة اللحود..
بالنسبة لي هذه السنة تركت في جروحا كثيرة.. و خسارات أكثر لا تحتاج للجرد..
 الرحلة كانت قاسية تطلبت أن أستعير من أيوب صبره علّني أواصل المسير ما بين أروقة المستشفيات وأكاذيب الأطباء واستهتارهم، وأحيانا كثيرة اعتقادهم أنهم خُلقوا حتى لا يفهم غيرهم مثلهم..
هذه السنة كانت مظلمة عندما  أوقفت أحلامي..
هذه السنة دخلت حروبا كثيرة، وخرجت منها خاسرة، حاربت على عدة جبهات كالجيش الحر.. كالشعوب العربية التي تموت كل يوم ولا تدري لماذا تموت.. وعلى أي شرع تموت.. ولا أين ستدفن؟ هل في قبور جماعية دون اسم، أم بجنازة محترمة تُذرف عليهم بضع دمعات ويذكرونهم بأسمائهم..،
هذه السنة كان أكثر عدد القتلى أطفال، رحل الملائكة من هذه البسيطة، فلا تنتظروا الأفضل.. سيخبرون الله بكل ما فعلنا فيهم.. سيخبرونه عن تخاذلنا، سيخبرونه عن كل آثامكم.. وجرائمكم، وفظائعكم، وظلمكم..
هذه السنة سقطت حولي أقنعة كثيرة.. اكتشفت أن عددها تكاثر، وأحيانا كنت تجد قناعا تحت قناع.. كلهم خانوا وغدروا..هي سنة الخديعة بلا منازع..

هذه السنة طعمها مُرّ.. بطعم الهزيمة.. فسيري حيث تشائين.. لم يتبق في المُقل عبرات لك..

السبت، 28 ديسمبر 2013

ترنيمة وسؤال..


بلادي الجميلة..
لماذا كَسرْتِ قلوب العذارى..
وفي السّماء أعراسٌ كل ليلة؟
شهبُ الفرح تُمطر العشاق..
من المحيط إلى المحيط
من الخليج إلى الخليج..
فُرسانُكِ الحَيارى
تدثّروا بالبياضْ،
رحلوا أشباحا في رحلة جماعية..
نحو وادي الضباب،
بلا قبور..
وعيون الشّوق تغْمُرهم بصمْتٍ مَقيت..
يَشُقّ صَدْر المدى
ولا من صدى..
إلا هذيان أسْئلة غاضبة..
لماذا انتشى الموت حين عانقني ؟
ثم ودّعَني..
سألتُ، وما مِنْ مُجيبْ..
لماذا ترَكْنا الفجْر خَلْفنا
وهَجَرْنا بعْضَنا..
وخَذَلْنا ذُلّنا..
لماذا المَساءُ بطَعْمٍ غريبْ؟..

الاثنين، 16 ديسمبر 2013

ولا ذَكَرتُك إلا تُهْتُ من طَرَبٍ..


                       "ولا ذَكَرتُك إلا تُهْتُ من طَرَبٍ
                        حتّى أُمَزّقَ أحْشائي وأطْمَاري"
                                                     أبو المغيث الحسين بن منصور الحلاج
الحُبُّ جمْرةُ اللّهبِ
إليكَ أُهْديها يا ربّي،
ترنّحْتُ على حبال هواكَ
وما بالروح سوى التّعبِ،
سَكرْتُ بكأْس خمْرتِهِ..
وغِبْتُ في لذّة القُرْبِ..
ناديتُ.. أنا الحقُّ،
فاصْلبوني كما صَلَبتُموهُ..
أنا هُو.. هُوَ أنا..
 سِرّهُ مُعلّق بالقلبِ.

*       *        *   *             *
ما بين مساميرٍ وأخشابِ
ودلائل عشقٍ وجمالْ..
ضَحِكَ، دمعتْ عيناه فرحاً
جلَدوهُ.. قطّعوا أطرافهْ..
رَقصتْ روحهُ من أنينْ
سالت دماء الكمالْ
صلّى..ناجَى ربّهُ وتَلى..
                        "وبشِّرِ الصّابرينْ"
فاصبروا تنالوا.. وإنْ بعْدَ حِينْ.

 *       *        *   *             *

طَمَعًا في الوِصالِ نطقْتُ هواكَ..
تلوتُ صلاةً مِحرابكَ العالي:
      سبحانكَ ربّي بيْن برّ وسماءْ..
غابَ العَقلُ ما بين الذِّكًرِ وشَقَى..
صَدحْتُ بترنيماتِ العارفينْ،
إن كان شَطْحُ المُحِبّين جُنونٌ
فإنّي في هواكَ جُنِنْتُ..
جُذِبْتُ لنورِ سرْمِدي 
مَرّغْتُ روحي وهِمْتُ..
غِبْتُ وغابَتْ عنّي أوْتاري
فلا كانتْ ولا كُنتُ..

 *       *        *   *             *
طَلبوا في طريقكَ الحقّ فقيل ضَلّوا
هيهْاتَ أن يضَلّ العارف الفانِي
لا كِبراٌ ولكنْ رأى الرّبَّ بعينِ القلبِ..
فيا حبيبي ضُمَّني لحُضْنِك الدّانِي
ثم "اصْنع كُلّ ما شِئْتَ بِشاني".

الجمعة، 25 أكتوبر 2013

مرْثِية الرحيل..


وجاء الرحيل .. حان الوقت.. لم نكُن مُستعدين، لم نَحْزم حقائبنا، لم نتوادع، لم نُقَبِّل بعضنا البعض أو نتَمنّى لبعضنا سفرا ممتعا..
لم أستمع لآخر وصاياكِ وإرشاداتك.. فجأة.. غادرْتِ..
 ولم يترك لنا القدر وقتا كافيا لتبادل الوصايا أو القُبل أو العناق حتى..
هكذا ودون مقدمات، قرر الطبيب ببرودة أن يأخذوك إلى الإنعاش، حينها طلبتُ منك كلمة، تنهّدْتِ بِوَهَن ورضِيت عنا جميعا، عرف العَقل أنها قد تكون آخر لحظة، لكنني كنت أضعف من أن أصدقه، فقد هويت التعلق دائما بِقَشّات الأمل  ..
كُنتِ مُتْعبَة، لكن ورغم الألم، كنتُ مُتمَسِّكة بآخر خُيوط الأمل.. في أن تعودي زهرة بيتك كما كُنتِ..
لا قُدرة لي على الحُزن.. فقد هدّني الحزن يا أمي، كيف لا، والحزن نار هادئة تطفئ نور العيون.. تسْرقُ ضياء الفجر.. تسرق كل الضّحْكات البريئة، نُواريها الثّرى بأيدينا ونعود حفاة عراة.. نكبر آلاف السنين، ونصبح مشوهين من الداخل..
في الليل تأتي الأفكار كالخفافيش، سوداء تهجم عليّ جماعات، تصطدم بعشوائية، تثير جَلَبة صامتة، أحاول أن أصُدّهُم عني فأجِدُني بلا يَديْن، أصْرخ وأصرخ فيهرب مني صوتي.. ينزوي في زاوية الغرفة.. ولا يتركني أنام، أسْمعُه في منتصف الليل يئِن، وقُرابة الفجْر  يحْضُنني ويطلب منّي أن أسامِحه..
يواعدني الحزن كل ليلة، يُغازلني.. يُراودني عن نفسي أتمنّع ثم أتمنّع، حتى تخْذُلني نفسي، فأسقط في الغواية..
حين قرّرْتُ أن أواجه الماضي.. بحثتُ عن شجاعتي فوجدتُنِي ضيّعتُها في رحلتي الطويلة، عبر صحارى لا شط لها، تناثَرتْ حبّاتها بين محطات السّفَر التي توزّعتني في بلاد أنجبتني خطأ ، تناثَرتْ كما تتناثرُ حبّاتُ لؤلؤ من يد صبيّة شقِية  ..
فتحتُ الأدراج القديمة، وبيَدٍ مُتردّدة تفَقّدتُ ساعات أبي اليدوية، كان يحب اقتناءها على أشكال وأنواع، وِسامُه الفخْري الذي حصل عليه بعد التقاعد كان هناك أيضا.... أقلامه النادرة، دفاتره حيث دَوّنَ مُقتطفاتٍ من أجمل ما قرأ، وفي ملفات ملونة وجدتُ أوراقا فارغة لازالت تنتظرُ من يُدَوّن عليها..
الصُّور القديمة تفتحُ شبابيك الذكريات، ومنها تهُبُّ رياح شتوية عاصفة، تُشْرِعُ أحزان القلب بدمع وابتسامة، الصُّور القديمة تستعرض كنوزنا الدفينة،  ترْحلُ بنا عبر الزمن الجميل، وبين الضِّفتيْن نتوه هل نبكي أم نضحك؟..
إيييه يا أمي..  وأصبحت مجرد صور وذكرى في ألبوم الحياة..
كنتُ طفلتكِ المُدلّلة، فدَلّلتني الحياة.. لكن إلى أجل.. البحرُ لا أمان له كانت تقول، وأنا أقول أن الحياة لا أمان لها.. غادَرْتِ و لم يترك لنا القدر مُتّسعا من الوقت لنُحَقِّق مشاريعنا المُؤجّلة..
غادرتِ وفي عُهْدَتي طلبات منك أجّلتُها إلى حين.. فلا تُؤجّلوا طلبات من تُحبون، قد يغادرون فجأة فتتمنوا لو تلحقون بهم لتَفُوا بما وعَدْتُم..
غادرتِ فكانت مَرثية الرّحيل، وهل يكفي الرثاء؟ كفَرْتُ بكل عبارات الرثاء وحروفه، فاختزِلوا عِباراتكُم المُبتذلة وجُمَلكم المُهْترئة، لمراسيم عَزاءٍ قد تنْبتُ هنا أو هناك..
كُنْتِ تعشقين التفاصيل  الصّغيرة، تُحبين الأشياء الجميلة، تُكرِمِين الصغير قبل الكبير، كنتِ إنسانة طيبة حنونة، لا تجرحين الناس، لم تؤذي أحدا... كنتِ ..وكنتِ.. وكنتِ.. وكنتُ في وداعكِ وحْدي.. فهل هذا  يكفيني لأن أفرح لأجلك؟
بين يدي غادرتِ إلى لا رجعة، مبتسمةٌ في كفنك الجميل، كعروس تُزفُّ ليلة عيد، وكيف لا وأنت رحلتِ في أيام عِتْقٍ من النار..
لم يسبق لي أن رأيتُ شخصا ميتا، لكن حين رأيتُ أمي كنت متأكدة أنها نائمة، ولأنها كانت مبتسمة تأكدتُ أنها كانت ترى أحلاما جميلة، فلم أُحاول إيقاظها، ولأن شيئا ما بداخلي كان يقول لي أن هذا هو اللقاء الأخير بيننا، إلا أني لم أهتم كثيرا، يكفي أنها كانت مُبتسمة سَعيدة..
كانوا يرْثونَك، يرثون ابتسامتك، وضحكتك وكلامك الموزون، وكنت أرثي نفسي حيث لا يجدي الرثاء.. كنت عاجزة .. والعجز قهار.. كنت تائهة ما بين سطح وقرار.. فلا أنا أطفو ولا أنا أغوص وينتهي شريط الألم والنار..
هل كان حُلما..؟ هل حقا سأستيقظ بعد حين لأجد أزهاري تبتسم لي كما كانت من قبل؟ هل سَيتَوقفُ المارُّون أمامي يَبتسِمون، أم يهُزّون رؤوسهم بحَسْرة؟ لا تتحسّروا علي.. لا أُريدُ أن أرى نظرات الشّفقة في عُيونكم.. شكرا لكم.. أهْديتُموني أفضل طقوس العَزاء.. فانزعوا عنكم ثياب الحداد..
إييه يا أمي .. كم كنا سعداء.. أتذكرين أيام الشتاء الممطرة حين كنا صغارا نَتحَلّقُ حولك فتحكي لنا حكاياتك التي لا تنتهي؟... وهذا البيت الكبير من يَتفَقدُ جَنباتِه؟ وهذه النّبْتات في حديقته من يتفقّدُها ويمنحها الحياة كل صباح؟ من سَيُشرِف على التفاصيل الصغيرة في كل شيء؟ من سيدعو لي في غدواتي؟..
 هرِمْتُ فجأة يا أمي، وأنا التي بقيتُ في نظرك كل حياتي طفلة صغيرة..
إييه يا أمي.. 
         رحلتِ قبل موعد الرحيلْ..
         في مفترق الطرقْ
          بين سؤالينْ
         وجبالٍ من حنينْ
         تركْتِني أجوب المدى وأعْصِر حبات لؤلؤ
         لأروي العطاشى
         وقلبي عطشانْ
         وقلبي حزينْ..



السبت، 21 سبتمبر 2013

روحٌ تُدنٍدنُ بين برْزخين..


على شطّ المواعيد كان الانتظارْ
وكنت قاتلا مُحترفا..
 كُل النوارس رَحلت ْمن هنا..
فخُذْ كُل شيء.ْ.
واترْك لي أقلامي
خُذ كلّ شيء
إيّاك وأحْلامي
اتْرُكني ذرّةً من رمالٍ على شاطئٍ مهجورْ
قُرب هذه الحروف
دَعْني مع نغمة وتر حزين
على مقام الحجاز.. مقام الصبا
مقام العَجَمْ.. وآه يا نغمْ
مِنك اسْتقلتُ.. وعلّقْتُ على ذاك الجدار صَكّ اسْتِسْلامي
دَعْ عنكَ زهْراتي البرّية
عنك فُرشاتِي و ألواني
أوراقي البيضاء
وخُذ كُل شيء..
فما تركْتَ لي سوى الرّماد
غيمتي أمطرت هذا المساء
ومن شرفتي تسَلّل السّارقونْ
هَـتَكوا سِري المدفون
عبثوا بقلبي وبالجفون
يا سارق طفولتي.. ويا مغتصبي
يا لُغة الليالي الحزينة
مازال في العُمر بقيةٌ من فَرحْ
دَعْ عنك ظِلّي..
ففي العروقِ انتفاضة جيلٍ غاضب
وبضع نسمات عابرة
يا سَارق أحلامي
لك كُل شيء
ولِي أصوات الضّحكات الشارِدة..
لي عشق الأغنيات الهاربة
والعصافير المهاجرة
وحبات زيتون مُعطّرة بالندى
وابتسامة رضيع في حضن الأمنيات..
لي كُل شيء في هذه الحياة
 فلا تقترب
دع عنك اسمي..
 دَعْ عنك وَشْمِي..
دَعْ عنك وَسْمي
دَع عنك تفاصيل غيابي في الغيابْ
فشبحي مر من هناك
يُدندن بدعواتٍ لم تُستجابْ

الأربعاء، 3 يوليو 2013

حكاية سلطان.. المعتمد بن عباد


  •      قبر المعتمد بأغمات، قرب  مدينة مراكش

في آخر زيارة لي لمدينة مراكش برمجت زيارة لقبر المعتمد بن عباد.. لكن نظرا لضيق الوقت لم أتمكن، فعدت أدراجي لمدينتي حزينة.. كنت أتمنى أن أقرأ بعضا من أشعاره عليه.. أن أستحضره أمامي..
فلماذا المعتمد بن عباد بالذات؟
فحكايته ليست كغيرها من الحكايات.. بالنسبة لي المعتمد هو صورة مختزلة عن الحياة الغادرة.. فقد هوى صرحه من السلطان والجاه إلى قاع الحياة.. فكانت نهايته الفقر والمرض والبؤس.. ليموت غريبا في بلاد غريبة،  تقلبَ في اللذات والنعم.. وتقلبتْ به الحياة لتُذيقه من كأسها مرارة العلقم..
        حكاية المعتمد هي عبرة لكل سلطان، يعيش الجاه والمال، ويتربع على عرش السلطة.. عبرة لعلها تجد من يتعظ بها، بعد أن أفل نجم الجاه والمال.. ولم تتبق سوى الذكريات في المنفى..فالشعر الذي قاله في منفاه يجسد فعلا مأساة من الناحية النفسية والتاريخية.
 وُلي المعتمد ابن عباد حكم إشبيلية بعد وفاة أبيه سنة 461 هـ ، فامتلك قرطبة وكثيرا من المملكة الأندلسية ، واتسع سلطانه إلى أن بلغ مدينة مرسية، وفي سنة 483 هـ  ثارت فتنة في قرطبة،  قُتل فيها ابن المعتمد وفتنة ثانية في إشبيلية أطفأ المعتمد نارها، ثم اتقدت وقتل فيها ولداه " المأمون"  و"الراضي".  
حُمل مقيدا مع أهله إلى مراكش، وأُدخِل على ابن تاشفين ، فأمر بإرساله ومن معه إلى بلدة صغيرة تسمى أغمات، بقي فيها إلى أن مات، ليكون آخر ملوك الدولة العبادية .    
       المعتمد في الواقع كانت نموذجا للأرستقراطية الأندلسية في ذلك العصر ، فعنده الكرم الذي قد يتجاوز أحيانا حدود العقل، واللين والرقة التي تظهر أهميتها عندما تقارنان على الخصوص بقوته وشدته . والشجاعة الفائقة عندما تتطلب المناسبات ذلك، وولعه بالغناء والرقص والموسيقى وأخيرا اهتمامه الكبير بالشعر والشعراء.
قال فيه الفتح بن خاقان في كتابه "قلائد العقيان" : "ولم تزل كبده تتوقد بالزفرات وخلده يتردد بين النكبات والعثرات ونفسه تتقسم بالأشجان والحسرات إلى أن شفته منيته وجاءت بها أمينته فدفن بأغمات وأريح من تلك الأزمات".
 وقال فيه المقري في "نفح الطيب " : قال غير واحد : من النادر الغريب أنه نؤدي على جنازته الصلاة على الغريب ، بعد عظم سلطانه وسعة أوطانه وكثرة وحبشانه وعظم أمره وشأنه . واجتمع عند قبره جماعة من الأقوام اللذين لهم في الأدب حصة ولقضية المعتمد في صدورهم غصة.... إلخ.
وخاتمة هذه الحكاية الباكية أبيات أوصى المعتمد أن تكتب على قبره :
قبر الغريب سقاك الرائح الغـادي         حقا ظفرت بأشلاء ابن عبــاد
بالحلم بالعلم بالنعمى إذا اتصـلت        بالخصب إن أجدبوا بالرى للصادي
بالطاعن الضارب الرامي إذا اقتتلوا      بالموت أحمد بالضرغامة العــادي
بالدهر في نقم بالبحر في نـــعم          بالبدر في ظلم بالصدر في النـادي
نعم هو الحق حابانــي به قــدر          من السماء فوافاني لميـــــعاد
إن المرحلة الأخيرة (من حياة المعتمد) هي مرحلة حالكة حقا، وتحفل بآثار شعرية رائعة نظمها في محنته وآلامه في النفي، فكانت بداية محنة أفظع وأبلغ ألما للنفس، هي محنة الاعتقال والأغلال والذل.
فالأكيد أن أجود الأشعار التي تصور مأساة سقوط إشبيلية، والتي تصور المأساة النفسية التي كان يحياها الشاعر هي الأشعار التي قالها المعتمد وهو في المنفى، فبعد أن نفي المعتمد إلى أغمات شعر بالحزن واليأس، وكان مما يشقيه ويعذبه منظر بناته وهن يعانين شظف العيش ومره إلى أن صرن في الأسمال البالية، فقد زارته بناته يوم عيد فلاحظ آثار الفاقة عليهن وما هن عليه من بؤس، فأنشد:
                 فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا        فساءك العيد بأغمات مأسورا
                  ترى بناتك في الأطمار جائعــة        يغزلن للناس لا يملكن قطميرا
                 برزن نحوك للتسليم خاشعـــة        أبصارهن حسيرات مكاسيـرا
                 يطأن في الطين والأقدام حافيـة         كأنها لم تطأ مسكا وكافـورا
وهو هنا يبكي قصوره :
                 بكى (المبارك) في أثر ابن عباد         بكى على أثر غزلان وأساد
                 بكت (ثراياه) لا عمت كواكبها          بمثل خود الثريا الرائح الغادي
                 بكى (الوحيد) بكى الزاهي وقبته        (والنهر التاج) كل ذله بادي
تبلغ بالشاعر حدة العاطفة مداها إلى أن يتخيل بأن قصوره هناك تبكي وتتفجع عليه وملامحها ذليلة منكسرة، بما في ذلك نهر التاج الذي يبكي عليه بذل وحسرة وانكسار بالغ.
                 يعقد مقارنة بين حياة الأمر والنهي التي كان يحياها ماضيا، وحياة الذل والهوان التي يحياها حاضرا، إن الماضي عند الشاعر هو الجنة المفقودة والعز المنهار، هو الوجود الحقيقي الكامل؛ لذلك، فهو لا يمل من استرجاع هذا الماضي واستحضاره، وتمني عودته واللهفة عليه، وإرسال التمني تلو التمني، والنداء تلو الآخر في إصرار وتكرارية يمنح تجربته بعدا شاملا ويكسبها تجذرا، كما في هذه الأبيات الحنينية  :
                 فيا ليت شعري، هل أبيتن ليلــة             أمامي وخلفي، روضة وغدير
                 بمنبتة الزيتون، مورثة العـــلا               تغني قيان، أوترن طيـــور
                 بزاهرها السامي الذرى جاده الحيا تشير الثريا نحونا وتشـــير
                 تراه عسيرا، أم يسيرا منالـــه               ألا كل ما شاء الإله قديـــر
بينما نلفي الرؤية المأساوية للزمن تتردد على مدى قصائد الشاعر، حين يرثي نفسه، ويخاطب قبره الغريب، إنها غربة في الحياة كما في الموت:
        قبر الغريب، سقاك الرائح الغادي           حقا ظفرت بأشلاء ابن عبــــاد
        بالحلم، بالعلم، بالنعمى إذا اتصلت بالخصب، إن أجدبوا، بالري للصادي
        بالطاعن الضارب، إذا اقتتــلوا              بالموت أحمر، بالضرغامة العــادي
        بالدهر في نقم، بالبحر في نعــم              بالبدر في ظلم، بالصدر في النــادي

وكما استثاره نواح القمرية الحزين، فهزه كل ذلك وأثاره فقال قصيدته النونية، وهي لا تقل عن سابقتها إخلاصا في التعبير وتدفقا في الشعور وعمقا في الإحساس يقول فيها:
يا عَيْنُ عيني أقْوى منكَ تَهَتَانَا    أبكِي لِحُزْني وما حُمِّلْتَ أحْزانَا
ونَنارُ بَرْقِكَ تخْبو إثْرَ وقْدَتِها     ونارُ قَلْبي تَبْقَى الدَّهْـرُ بُرْكانا
نَارٌ وماءٌ صَميمُ القَلْبِ أصْلُها    متى حوَى القَلْبُ نيرانا وطوفانَا
ضدَّانِ أَلَّفَ صَرْفُ الدَّهْرِ بيْنَهُما    لَقَدْ تَلَوَّنَ في الدَّهْرِ أَلْوانــَا
ويتحدث عن سبب كل ذلك فيذْكر ابنيه الفتح ويزيد بلوعة وحرقة:
بَكيْتُ فتْحاً فإذا ما رُمْتُ سَلْوَتَهُ     ثَوى يزيـدُ فزادَ القلـبَ نيرانَا
يا فَلْذَتَيْ كِبْدِي يأبَى تَقَطُّعُـها      عنْ وَجْدِها بِكُما ما عِشْتُ سُلْواناَ
لقَدْ هوَى بِكُما نَجْمانِ ما رَمَيا      إلاّض من العُلْوِّ بالأَلْحاظِ كيوانَا
امتدت مأساة ابن عباد حتى بعد موته، إذ ظل لنكبته أثر كبير في نفوس الشعراء حتى زمن لسان الدين ابن الخطيب الذي مر بقبر المعتمد بعد موته بنحو بنحو ثلاثة قرون، فلم تملك عينه دمعها حين هاج قبر هذا الملك المغترب ذكرى المجد والبأس والكرم هي الصفات التي تحلى بها صاحبه. وقال قصيدته التي مطلعها:
قد زُرْتُ قبرَكَ عن طوْعٍ بأغمـاتِ       رأيتُ ذاكَ من أولى المُهِمَّاتِ
لم لا أزورُكَ يا أندى المُلوكِ يـداً         ويا سراج الليالي المُدلهِماتِ
وأنتَ منْ لوْ تخطَّى الدهْرُ مصْرعهُ        الى حياتي لجادت فيه أبياتي
تلك كانت هي حياة المعتمد في السنوات الأربع من حياته، وهي حياة تجتذبها عواطف ثائرة مضطربة و مشاعر تتقاذفه من كل صوب وتجتاح نفسه أثناء هذه الحقبة الأخيرة التعيسة من حياته الصاخبة. وقد كان من نتاجها أن ظهر لنا المعتمد الشاعر في أروع حلله وأجمل إنتاجه. واكتسب شعره قيمة فنية لم نكن نراها في شعره الذي نظمه أثناء حياته في إشبيلية.

إن الدافع الفني الذي يدفع العاشق الى الغناء، والحزين الى النشيج، والفرح الى الرقص، والخائف الى الصراخ، إنه هو نفسه الذي دفع الشاعرالملك الأسير الى هذا الغناء الحزين الذي رأيناه مخضبا بالدمع، ضاجا بالأسى، يقطر منه الحزن وتتصاعد منه الزفرات والأنات. هذا الدافع هو الذي خلق من المعتمد الناظم شاعرا، نقل الينا عبر القرون مشاعره وأحاسيسه فعشنا معه في أجوائه ونفذنا الى أعماق نفسه وخلجاتها. وبذلك كان إنتاجه هذا إنتاجا أدبيا قيما، عُدَّ من خيرة ما قدمه الأدب الأندلسي الى تراث الأدب العربي.
القصيدة التي أوصى المعتمد أن تكتب على قبره

الجمعة، 1 مارس 2013

في حضرة الطير..



في ذاكرتي المُتعبة حكايات.. أسْتحضِرُ اليوم منها حكاية..
يُحْكَى أن أخي كان يعشق تربية الحمام.. فجهّز ذات يوم مكانا كبيرا على سطْح بيتِنا، خصَّصَ بيوتا صغيرة لكل زوْجٍ من الحمام.. واشترى عددا منها..
كنت أحبو حينها إلى السادسة أو السابعة من عمري، لا أذكر تقريبا.. لكن ما أذكره أن أقْصى لحظاتِ سعادتي آنذاك هي حين أجلس قرب أخي وأراقبه كيف يعتني بهذه المخلوقات الجميلة..
 مَنَحْتُ لكل منها أسماء خاصة، وبدأنا نناديها بها، وأصبحْتُ أقْضي جُلّ يومي قُرْبها، صَخَبُنا وشقاوتُنا الصغيرة انْتَقلتْ إلى سطح بيتنا.. كُنا نبتهج كثيرا ونقيم هرجا ومرجا عندما نكتشف بيضة أو بيضتين في عُشّ ما.. أما حين تَفْقِس ونرى كائنات صغيرة بريش أصفر.. فكنا نقيم حفلا من الصراخ في أرجاء البيت ..
عَشِقْتُ صغار الحَمَام.. فعوّضني عالمُها عن عالم البشر.. أحْسَسْتُ فيه بالأُلفة، بالحُب.. مُجتمعٌ مُنظّم، بيوتٌ متراصّة.. الكل ينام في وقت واحد، يستيقظ في وقت واحد.. يعيشون في انسجام تام بِغضّ النظر عن اللون والعرق والجنس..
لا مكان للحقد في قلوب الحمام، قلوبهم كُلها بيضاء، حتى عندما يتخاصمون ويتناوشون، ينْسَوْن خُصوماتهم بعد مدة قصيرة، فتعودُ حياتهم لما كانت عليه.. الأم والأب يتناوبان على رعاية البيض ثم الصغار بعد ذلك..
         لم أسمع صراخا لأنثى تُوبّخُ زوجها على عدم اهتمامه بالأبناء.. أو تقصيره في أداء واجباته !..
لم أسمع صراخا لذكر على أُنْثاه يدّعي أن رعاية الأطفال واجبها.. أما هو فسيكتفي بالتجوال على أسطح البيوت علّه يُصادف حمامة أجْمل يرْحَلُ معها!
الحمائم كانت جميلة، بشكلها.. بعيونها الواسعة، بريشها المتناسق، بمشيتها الواثقة، أحْبَبْتُ فيها كل شيء حتى تمنّيتُ لوْ أنَّ هناك وصفةً سِحْرية تجعلني أتحَول لحمامة، كما قرأتُ في إِحْدى القصص العجائبية.. لأعيش بينهم ..
 ذات صباح اسْتفقتُ على خبر مؤلم.. كان وجه أخي مُمْتقِعاً حين أخبرني أنه وجد حمامة ميتة.. إنها "حَنُّونَة" كما كُنا نناديها.. طلبتُ منه أن يُريني إياها لأَسْألها لماذا ماتت.. رفض مدعيا أنه دفنها.. أين لم يقل، كيف ماتت لم يقل.... حزنتُ كثيرا.. كانت أُولى علاقاتي بالموت..فلم أفهم معناه ..سوى أنني لن أرى بعد اليوم "حنُّونة"..
تذكّرتُ جمال ألوانها، كانت هادئة أكثر من باقي الحمام.. مُسالمة، حنونة، وربما لذلك أطلقنا عليها هذا الاسم..
كان صعبا أن أفتقد كائنا أحْببتُهُ في عمر لا يتجاوز بضع سنين.. صَعدْتُ لقفص الحمام، وجدت الذكر جالسا وحيدا في عُشهما، وفي عينيه نظرات هائمة.. أردت أن أحْتضِنهُ وأقول له كلاما كثيرا.. لا أتذكّرُ هل بَكيْتُ فعلا أم أني اختزنْتُ دموعي، لأن الحياة بعد ذلك تطلّبَتْ مني دموعا كثيرة..
كنت أودُّ أن أقول له أني أيضا أفتقدُ حنُّونة.. وأني أحببْتُها كثيرا.. وأني أتأسّفُ كثيرا لأني لم أقل لها ذلك.. تخيّلتُها في حجمي .. وتمنّيتُ لو أنها عانقَتْني بجناحيها قبل أن تُسافر.. لأغوصَ في ريشها الناعم.. تخيلتُني أُسافرُ معها كطائر الرُخّ العملاق في رِحْلاتها البعيدة.. تَخَيّلْتُني أتَشبّتُ بعنُقِها وطَوْقِها الجميل.. فتمضي رٍحْلاتنا اللاّمتناهية بين السحاب.. في رِحْلة كرِحْلات السندباد البحري الذي طالما اسْتَهْوتني مغامراته.. تمنيتُ لو أني أًتقنً لغة الحمام لأقوله كل هذه الأشياء..
مَرّ يومٌ ويومان.. مكاني كان قرب قفص الحمام، وعيني على عُشٍ يجلسُ فيه ذكر الحمام وحيدا.. لم أفهم لماذا اعتزل مجتمعه الجميل، ورفض الخروج للطعام..
لم أفهم كثيرا ما وقع آنذاك.. كان أخي قلِقا بدوره، وهذا الطائر يرفض الطعام والشراب.. رأيت أخي يحمله بين يديه ويحاول يائسا إطعامه بالقوة بِضْع حبّات قمح.. كان المنظر غريبا..
هل حقا هذا الطائر بلغ به حُبه لأنثاه.. وحُزنُه لفُقدانها لهذه الدرجة التي تجعلُه يُفضِّل الموت جوعا على مواصلة الحياة..؟ هل يوجد هذا الحُبّ بين الحيوانات؟ !هل يوجد هذا الوفاء؟؟
لقد رفض فعلا أن يُعَوضَها بغيْرِها.. و رفض أن يعيش بَعْدها..
بعد أيام قليلة وجدناه مَيِّتا في عُشه.. هذا العُش الذي جمعهما.. لقد أقْسَم هذا العاشق أن لا يترُكه إلّا لِيلْحَقَ بمحْبوبَتِه..
الحكايات الجميلة تنتهي سريعا ودون أن نُدرِك..بدمعة. فمنذ ذاك اليوم لم أجرُؤْ على الاقتراب من هذا المُجْتمع المثالي الطاهر.. فانتهت حكاية جميلة..
حُزني كان أقوى من أن أنساه وأتعايش معه كأن شيئا لم يكن.. وقلبي الصغير كان أضعف من أن يحتمل جُرعة أكبر من وفاءٍ أو نُبل.. فقرّرتُ ألا أشهد قصة وفاء أخرى..
لاحقا ستُعلّمُني الحياة دروسا كثيرة.. قاسية لكن مهمة.. منها أن الوفاء عُمْلة نادرة.. الأغبياء والسُّذّجُ..  والحمام هُمْ من يَحْتفظون بها..
عندما كبُرت، كلما صادفت خيانة ما بين البشر.. أتذكر قصة هذا الطائر الذي اختار أن يموت وفاءً وعِشْقاً.. فَتـُشرَعُ في ذاكرةِ قلْبي نافذةٌ من المشاعر المهولة من الحنين الممزوج بألوان البراءة.. لِيذْرفَ نبْضي دموعا من زُهيـْراتِ الوفاء النادرة..