الأربعاء، 3 يوليو 2013

حكاية سلطان.. المعتمد بن عباد


  •      قبر المعتمد بأغمات، قرب  مدينة مراكش

في آخر زيارة لي لمدينة مراكش برمجت زيارة لقبر المعتمد بن عباد.. لكن نظرا لضيق الوقت لم أتمكن، فعدت أدراجي لمدينتي حزينة.. كنت أتمنى أن أقرأ بعضا من أشعاره عليه.. أن أستحضره أمامي..
فلماذا المعتمد بن عباد بالذات؟
فحكايته ليست كغيرها من الحكايات.. بالنسبة لي المعتمد هو صورة مختزلة عن الحياة الغادرة.. فقد هوى صرحه من السلطان والجاه إلى قاع الحياة.. فكانت نهايته الفقر والمرض والبؤس.. ليموت غريبا في بلاد غريبة،  تقلبَ في اللذات والنعم.. وتقلبتْ به الحياة لتُذيقه من كأسها مرارة العلقم..
        حكاية المعتمد هي عبرة لكل سلطان، يعيش الجاه والمال، ويتربع على عرش السلطة.. عبرة لعلها تجد من يتعظ بها، بعد أن أفل نجم الجاه والمال.. ولم تتبق سوى الذكريات في المنفى..فالشعر الذي قاله في منفاه يجسد فعلا مأساة من الناحية النفسية والتاريخية.
 وُلي المعتمد ابن عباد حكم إشبيلية بعد وفاة أبيه سنة 461 هـ ، فامتلك قرطبة وكثيرا من المملكة الأندلسية ، واتسع سلطانه إلى أن بلغ مدينة مرسية، وفي سنة 483 هـ  ثارت فتنة في قرطبة،  قُتل فيها ابن المعتمد وفتنة ثانية في إشبيلية أطفأ المعتمد نارها، ثم اتقدت وقتل فيها ولداه " المأمون"  و"الراضي".  
حُمل مقيدا مع أهله إلى مراكش، وأُدخِل على ابن تاشفين ، فأمر بإرساله ومن معه إلى بلدة صغيرة تسمى أغمات، بقي فيها إلى أن مات، ليكون آخر ملوك الدولة العبادية .    
       المعتمد في الواقع كانت نموذجا للأرستقراطية الأندلسية في ذلك العصر ، فعنده الكرم الذي قد يتجاوز أحيانا حدود العقل، واللين والرقة التي تظهر أهميتها عندما تقارنان على الخصوص بقوته وشدته . والشجاعة الفائقة عندما تتطلب المناسبات ذلك، وولعه بالغناء والرقص والموسيقى وأخيرا اهتمامه الكبير بالشعر والشعراء.
قال فيه الفتح بن خاقان في كتابه "قلائد العقيان" : "ولم تزل كبده تتوقد بالزفرات وخلده يتردد بين النكبات والعثرات ونفسه تتقسم بالأشجان والحسرات إلى أن شفته منيته وجاءت بها أمينته فدفن بأغمات وأريح من تلك الأزمات".
 وقال فيه المقري في "نفح الطيب " : قال غير واحد : من النادر الغريب أنه نؤدي على جنازته الصلاة على الغريب ، بعد عظم سلطانه وسعة أوطانه وكثرة وحبشانه وعظم أمره وشأنه . واجتمع عند قبره جماعة من الأقوام اللذين لهم في الأدب حصة ولقضية المعتمد في صدورهم غصة.... إلخ.
وخاتمة هذه الحكاية الباكية أبيات أوصى المعتمد أن تكتب على قبره :
قبر الغريب سقاك الرائح الغـادي         حقا ظفرت بأشلاء ابن عبــاد
بالحلم بالعلم بالنعمى إذا اتصـلت        بالخصب إن أجدبوا بالرى للصادي
بالطاعن الضارب الرامي إذا اقتتلوا      بالموت أحمد بالضرغامة العــادي
بالدهر في نقم بالبحر في نـــعم          بالبدر في ظلم بالصدر في النـادي
نعم هو الحق حابانــي به قــدر          من السماء فوافاني لميـــــعاد
إن المرحلة الأخيرة (من حياة المعتمد) هي مرحلة حالكة حقا، وتحفل بآثار شعرية رائعة نظمها في محنته وآلامه في النفي، فكانت بداية محنة أفظع وأبلغ ألما للنفس، هي محنة الاعتقال والأغلال والذل.
فالأكيد أن أجود الأشعار التي تصور مأساة سقوط إشبيلية، والتي تصور المأساة النفسية التي كان يحياها الشاعر هي الأشعار التي قالها المعتمد وهو في المنفى، فبعد أن نفي المعتمد إلى أغمات شعر بالحزن واليأس، وكان مما يشقيه ويعذبه منظر بناته وهن يعانين شظف العيش ومره إلى أن صرن في الأسمال البالية، فقد زارته بناته يوم عيد فلاحظ آثار الفاقة عليهن وما هن عليه من بؤس، فأنشد:
                 فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا        فساءك العيد بأغمات مأسورا
                  ترى بناتك في الأطمار جائعــة        يغزلن للناس لا يملكن قطميرا
                 برزن نحوك للتسليم خاشعـــة        أبصارهن حسيرات مكاسيـرا
                 يطأن في الطين والأقدام حافيـة         كأنها لم تطأ مسكا وكافـورا
وهو هنا يبكي قصوره :
                 بكى (المبارك) في أثر ابن عباد         بكى على أثر غزلان وأساد
                 بكت (ثراياه) لا عمت كواكبها          بمثل خود الثريا الرائح الغادي
                 بكى (الوحيد) بكى الزاهي وقبته        (والنهر التاج) كل ذله بادي
تبلغ بالشاعر حدة العاطفة مداها إلى أن يتخيل بأن قصوره هناك تبكي وتتفجع عليه وملامحها ذليلة منكسرة، بما في ذلك نهر التاج الذي يبكي عليه بذل وحسرة وانكسار بالغ.
                 يعقد مقارنة بين حياة الأمر والنهي التي كان يحياها ماضيا، وحياة الذل والهوان التي يحياها حاضرا، إن الماضي عند الشاعر هو الجنة المفقودة والعز المنهار، هو الوجود الحقيقي الكامل؛ لذلك، فهو لا يمل من استرجاع هذا الماضي واستحضاره، وتمني عودته واللهفة عليه، وإرسال التمني تلو التمني، والنداء تلو الآخر في إصرار وتكرارية يمنح تجربته بعدا شاملا ويكسبها تجذرا، كما في هذه الأبيات الحنينية  :
                 فيا ليت شعري، هل أبيتن ليلــة             أمامي وخلفي، روضة وغدير
                 بمنبتة الزيتون، مورثة العـــلا               تغني قيان، أوترن طيـــور
                 بزاهرها السامي الذرى جاده الحيا تشير الثريا نحونا وتشـــير
                 تراه عسيرا، أم يسيرا منالـــه               ألا كل ما شاء الإله قديـــر
بينما نلفي الرؤية المأساوية للزمن تتردد على مدى قصائد الشاعر، حين يرثي نفسه، ويخاطب قبره الغريب، إنها غربة في الحياة كما في الموت:
        قبر الغريب، سقاك الرائح الغادي           حقا ظفرت بأشلاء ابن عبــــاد
        بالحلم، بالعلم، بالنعمى إذا اتصلت بالخصب، إن أجدبوا، بالري للصادي
        بالطاعن الضارب، إذا اقتتــلوا              بالموت أحمر، بالضرغامة العــادي
        بالدهر في نقم، بالبحر في نعــم              بالبدر في ظلم، بالصدر في النــادي

وكما استثاره نواح القمرية الحزين، فهزه كل ذلك وأثاره فقال قصيدته النونية، وهي لا تقل عن سابقتها إخلاصا في التعبير وتدفقا في الشعور وعمقا في الإحساس يقول فيها:
يا عَيْنُ عيني أقْوى منكَ تَهَتَانَا    أبكِي لِحُزْني وما حُمِّلْتَ أحْزانَا
ونَنارُ بَرْقِكَ تخْبو إثْرَ وقْدَتِها     ونارُ قَلْبي تَبْقَى الدَّهْـرُ بُرْكانا
نَارٌ وماءٌ صَميمُ القَلْبِ أصْلُها    متى حوَى القَلْبُ نيرانا وطوفانَا
ضدَّانِ أَلَّفَ صَرْفُ الدَّهْرِ بيْنَهُما    لَقَدْ تَلَوَّنَ في الدَّهْرِ أَلْوانــَا
ويتحدث عن سبب كل ذلك فيذْكر ابنيه الفتح ويزيد بلوعة وحرقة:
بَكيْتُ فتْحاً فإذا ما رُمْتُ سَلْوَتَهُ     ثَوى يزيـدُ فزادَ القلـبَ نيرانَا
يا فَلْذَتَيْ كِبْدِي يأبَى تَقَطُّعُـها      عنْ وَجْدِها بِكُما ما عِشْتُ سُلْواناَ
لقَدْ هوَى بِكُما نَجْمانِ ما رَمَيا      إلاّض من العُلْوِّ بالأَلْحاظِ كيوانَا
امتدت مأساة ابن عباد حتى بعد موته، إذ ظل لنكبته أثر كبير في نفوس الشعراء حتى زمن لسان الدين ابن الخطيب الذي مر بقبر المعتمد بعد موته بنحو بنحو ثلاثة قرون، فلم تملك عينه دمعها حين هاج قبر هذا الملك المغترب ذكرى المجد والبأس والكرم هي الصفات التي تحلى بها صاحبه. وقال قصيدته التي مطلعها:
قد زُرْتُ قبرَكَ عن طوْعٍ بأغمـاتِ       رأيتُ ذاكَ من أولى المُهِمَّاتِ
لم لا أزورُكَ يا أندى المُلوكِ يـداً         ويا سراج الليالي المُدلهِماتِ
وأنتَ منْ لوْ تخطَّى الدهْرُ مصْرعهُ        الى حياتي لجادت فيه أبياتي
تلك كانت هي حياة المعتمد في السنوات الأربع من حياته، وهي حياة تجتذبها عواطف ثائرة مضطربة و مشاعر تتقاذفه من كل صوب وتجتاح نفسه أثناء هذه الحقبة الأخيرة التعيسة من حياته الصاخبة. وقد كان من نتاجها أن ظهر لنا المعتمد الشاعر في أروع حلله وأجمل إنتاجه. واكتسب شعره قيمة فنية لم نكن نراها في شعره الذي نظمه أثناء حياته في إشبيلية.

إن الدافع الفني الذي يدفع العاشق الى الغناء، والحزين الى النشيج، والفرح الى الرقص، والخائف الى الصراخ، إنه هو نفسه الذي دفع الشاعرالملك الأسير الى هذا الغناء الحزين الذي رأيناه مخضبا بالدمع، ضاجا بالأسى، يقطر منه الحزن وتتصاعد منه الزفرات والأنات. هذا الدافع هو الذي خلق من المعتمد الناظم شاعرا، نقل الينا عبر القرون مشاعره وأحاسيسه فعشنا معه في أجوائه ونفذنا الى أعماق نفسه وخلجاتها. وبذلك كان إنتاجه هذا إنتاجا أدبيا قيما، عُدَّ من خيرة ما قدمه الأدب الأندلسي الى تراث الأدب العربي.
القصيدة التي أوصى المعتمد أن تكتب على قبره

هناك 6 تعليقات:

  1. و تجدر الإشارة أخني مثال أن سبب اعتقال و سجن المعتمد بن عباد يرجع إلى أجداث تاريخية جاءت كالتالي : فبعد أن بدأت تتزعزع الممالك الأندلسية ، كان لابد لهذه الأخيرة من طلب المساعدة و اتجه المعتمد إلى المرابطين بقيادة يوسف بن تاشفين الذي لبى الدعوة دون تأخر كنصرة لإخوان الدين على النصارى ( و ذلك لمرجعية يوسف بن تاشفين الدينية ).
    بعد انتصار المسلمين على النصارى بقي ابن تاشفين في ضيافة المعتمد و كانت قد وصلته شكاوى من الفقهاء و العلماء على أن السبب في تدهور الدولة يرجع بالأساس إلى زوجة المعتمد اعتماد الرميكية التي الملقبة ب (السيدة الكبرى) التي ورطته في الخلاعة والاستهتار والمجاهرة لأنها كانت تحضر مجالس الشعر و مناقشة أمور الدولة و الدين . عاد يوسف بن تاشفين إلى مراكش كما وعد المعتمد لكنه كان غاضبا و بعد تدهور حال الدولة و سقوطها قام المرابطون باعتقال المعتمد لأنه السبب وراء ذلك و من سجنه و أهله بأغمات....

    ردحذف
    الردود
    1. مواضيع هذه المدونة لها علاقة وطيدة بمواضيع مدونة الثقافة الشعبية المغربية التي أشرف على إدارتها، أتمنى أن نتبدل الزيارات والنقاشات والتعاليق مستقبلا...
      هذا رابط مدونتي:http://ta9afa-cha3biya.blogspot.com/
      مدوتي

      حذف
  2. abdelhadi3: اختلف المؤرخون في سبب اعتقال يوسف ابن تاشفين للمعتمد بن عباد ونفيه له، لكن ما يتفقون فيه هو علاقة الحب الرومانسية التي ظلت تجمع الملك مع زوجته اعتماد، حتى أنه سمي بها! وتحكي الروايات التاريخية أنه يوما رأت اعتماد نساء فلاحات يعجن الطين بأرجلهن في أحد الحقول، فأحبت أن تفعل مثلهن، فأمر الملك بنثر المسك ومزجه بماء الورد لتقلد الفلاحات! إنه فعلا قدر عظيم من الحب !

    SAIDI SAMIR25: شكرا على مرورك بمدونتي المتواضعة، وقد زرت فعلا مدونة الثقافة الشعبية وأجدها جد مهمة، لاهتمامي الشخصي بموروثنا الشعبي، أكيد ستكون لي زيارات كثيرة وتعاليق أكثر :)

    مدونة طارق: شكرا على مرورك، ومرحبا بتفاعلك مع تدويناتي

    شكرا لكم جميعا، ومرحبا بتعليقاتكم وآرائكم

    ردحذف
  3. قال الذهبي عن يوسف بن تاشفين :أساء العشرة،
    مهما بلغ بك من تدين فإنه لايجدر بك أن تسيئ إلى من أحسن إليك، واستضافك وفتح لك قصوره، كان من الممكن جدا تقويم ابن عباد في اعوجاجه هذا إن سلمنا جدلاً أنه معوج!
    لكن أعتقد أن ابن تاشفين قد ملأ قلبه الحسد لما رأى من أبهة الملك والخير الوفير الذي كان عند ابن عباد

    ردحذف
  4. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
    قرأت المدخل و بعض التعاليق ، فتجرأت ان ادلو بدلوي، على قصر حبلي، و قلة زادي. المعذرة، اوله و آخره ...
    اولا لا يجب أن لا نحكم عل الاحداث والوقائع التاريخية بقيم و معايير من خارج إطارها الزماني والمكاني.
    بمعنى يجب الإبقاء عليها في سياقها الذاتي. القول إن حبه لمعتمدته ،كان سببا من أسباب ضياع الدولة، اظن فيه نظر ، لأن تداخل النسوان و السلطان كان العادة السائدة اذاك ثانيها ان رجوع ابن تاشفين على المعتمد كان أيضا جزء من ثقافة سائدة في الملك ولا تزال كذلك ،و هى لا يتساوى خلان ،و لا يجتمع ملكان. فكان لا يد ان يزيد أحدهما على الآخر، بدليل القسوة التي عامل بها ابن تاشفين ابن عباد، بعد ان تمكن منه. إذ تتعدى مجرد أبعاد خطر عودته إلى الرغبة في الإذلال و التشفي .
    ثالثا ما فعله المرابطون في الأندلس من بعده لا يقل اسرافا وتبذيرا منه ،بل تعدى ذلك إلى فساد الطباع على الجملة كما رووي عن تلك الفترة .إذن لماذا تنهى على أمر و تأتي بمثله ، أليس عار عليك اذا فعلت عظيم ... معذرة المتنبي.
    عموما يبقى المعتمد من الحكام القلائل الأندلس و غيرها ممن طال عهد حكمهم، اذ بلغ تقريبا 25 سنة، سادها الرخاء و الثروة، بفعل الاستقرار الذي فرضه في الدولة .كما كان ليس أكثر عدلا و اقل بطشا من غيره كما رووي عنه .انا شخصيا استحضره الأن بين عيني كواحد من عظماء تاريخ الامة . وقبل هذا وذاك فقد مجده الاسبان مثله مثل عبد الرحمان الداخل و محمد بن أبي عامر ،و الله الناصر لدين الله أقصد المؤرخين و المثقفين منهم .
    اخيرا أقول لكم.. تلك أمة قد خلت لها ما كسبت و لكم ما كسبتم و لا تسئلون عما كانوا يفعلون .
    تقبلو مروري بينكم بدون إذن مسبق . اخوكم علي من الجزائر لو تقبلون. سلام.

    ردحذف