الجمعة، 25 أكتوبر 2013

مرْثِية الرحيل..


وجاء الرحيل .. حان الوقت.. لم نكُن مُستعدين، لم نَحْزم حقائبنا، لم نتوادع، لم نُقَبِّل بعضنا البعض أو نتَمنّى لبعضنا سفرا ممتعا..
لم أستمع لآخر وصاياكِ وإرشاداتك.. فجأة.. غادرْتِ..
 ولم يترك لنا القدر وقتا كافيا لتبادل الوصايا أو القُبل أو العناق حتى..
هكذا ودون مقدمات، قرر الطبيب ببرودة أن يأخذوك إلى الإنعاش، حينها طلبتُ منك كلمة، تنهّدْتِ بِوَهَن ورضِيت عنا جميعا، عرف العَقل أنها قد تكون آخر لحظة، لكنني كنت أضعف من أن أصدقه، فقد هويت التعلق دائما بِقَشّات الأمل  ..
كُنتِ مُتْعبَة، لكن ورغم الألم، كنتُ مُتمَسِّكة بآخر خُيوط الأمل.. في أن تعودي زهرة بيتك كما كُنتِ..
لا قُدرة لي على الحُزن.. فقد هدّني الحزن يا أمي، كيف لا، والحزن نار هادئة تطفئ نور العيون.. تسْرقُ ضياء الفجر.. تسرق كل الضّحْكات البريئة، نُواريها الثّرى بأيدينا ونعود حفاة عراة.. نكبر آلاف السنين، ونصبح مشوهين من الداخل..
في الليل تأتي الأفكار كالخفافيش، سوداء تهجم عليّ جماعات، تصطدم بعشوائية، تثير جَلَبة صامتة، أحاول أن أصُدّهُم عني فأجِدُني بلا يَديْن، أصْرخ وأصرخ فيهرب مني صوتي.. ينزوي في زاوية الغرفة.. ولا يتركني أنام، أسْمعُه في منتصف الليل يئِن، وقُرابة الفجْر  يحْضُنني ويطلب منّي أن أسامِحه..
يواعدني الحزن كل ليلة، يُغازلني.. يُراودني عن نفسي أتمنّع ثم أتمنّع، حتى تخْذُلني نفسي، فأسقط في الغواية..
حين قرّرْتُ أن أواجه الماضي.. بحثتُ عن شجاعتي فوجدتُنِي ضيّعتُها في رحلتي الطويلة، عبر صحارى لا شط لها، تناثَرتْ حبّاتها بين محطات السّفَر التي توزّعتني في بلاد أنجبتني خطأ ، تناثَرتْ كما تتناثرُ حبّاتُ لؤلؤ من يد صبيّة شقِية  ..
فتحتُ الأدراج القديمة، وبيَدٍ مُتردّدة تفَقّدتُ ساعات أبي اليدوية، كان يحب اقتناءها على أشكال وأنواع، وِسامُه الفخْري الذي حصل عليه بعد التقاعد كان هناك أيضا.... أقلامه النادرة، دفاتره حيث دَوّنَ مُقتطفاتٍ من أجمل ما قرأ، وفي ملفات ملونة وجدتُ أوراقا فارغة لازالت تنتظرُ من يُدَوّن عليها..
الصُّور القديمة تفتحُ شبابيك الذكريات، ومنها تهُبُّ رياح شتوية عاصفة، تُشْرِعُ أحزان القلب بدمع وابتسامة، الصُّور القديمة تستعرض كنوزنا الدفينة،  ترْحلُ بنا عبر الزمن الجميل، وبين الضِّفتيْن نتوه هل نبكي أم نضحك؟..
إيييه يا أمي..  وأصبحت مجرد صور وذكرى في ألبوم الحياة..
كنتُ طفلتكِ المُدلّلة، فدَلّلتني الحياة.. لكن إلى أجل.. البحرُ لا أمان له كانت تقول، وأنا أقول أن الحياة لا أمان لها.. غادَرْتِ و لم يترك لنا القدر مُتّسعا من الوقت لنُحَقِّق مشاريعنا المُؤجّلة..
غادرتِ وفي عُهْدَتي طلبات منك أجّلتُها إلى حين.. فلا تُؤجّلوا طلبات من تُحبون، قد يغادرون فجأة فتتمنوا لو تلحقون بهم لتَفُوا بما وعَدْتُم..
غادرتِ فكانت مَرثية الرّحيل، وهل يكفي الرثاء؟ كفَرْتُ بكل عبارات الرثاء وحروفه، فاختزِلوا عِباراتكُم المُبتذلة وجُمَلكم المُهْترئة، لمراسيم عَزاءٍ قد تنْبتُ هنا أو هناك..
كُنْتِ تعشقين التفاصيل  الصّغيرة، تُحبين الأشياء الجميلة، تُكرِمِين الصغير قبل الكبير، كنتِ إنسانة طيبة حنونة، لا تجرحين الناس، لم تؤذي أحدا... كنتِ ..وكنتِ.. وكنتِ.. وكنتُ في وداعكِ وحْدي.. فهل هذا  يكفيني لأن أفرح لأجلك؟
بين يدي غادرتِ إلى لا رجعة، مبتسمةٌ في كفنك الجميل، كعروس تُزفُّ ليلة عيد، وكيف لا وأنت رحلتِ في أيام عِتْقٍ من النار..
لم يسبق لي أن رأيتُ شخصا ميتا، لكن حين رأيتُ أمي كنت متأكدة أنها نائمة، ولأنها كانت مبتسمة تأكدتُ أنها كانت ترى أحلاما جميلة، فلم أُحاول إيقاظها، ولأن شيئا ما بداخلي كان يقول لي أن هذا هو اللقاء الأخير بيننا، إلا أني لم أهتم كثيرا، يكفي أنها كانت مُبتسمة سَعيدة..
كانوا يرْثونَك، يرثون ابتسامتك، وضحكتك وكلامك الموزون، وكنت أرثي نفسي حيث لا يجدي الرثاء.. كنت عاجزة .. والعجز قهار.. كنت تائهة ما بين سطح وقرار.. فلا أنا أطفو ولا أنا أغوص وينتهي شريط الألم والنار..
هل كان حُلما..؟ هل حقا سأستيقظ بعد حين لأجد أزهاري تبتسم لي كما كانت من قبل؟ هل سَيتَوقفُ المارُّون أمامي يَبتسِمون، أم يهُزّون رؤوسهم بحَسْرة؟ لا تتحسّروا علي.. لا أُريدُ أن أرى نظرات الشّفقة في عُيونكم.. شكرا لكم.. أهْديتُموني أفضل طقوس العَزاء.. فانزعوا عنكم ثياب الحداد..
إييه يا أمي .. كم كنا سعداء.. أتذكرين أيام الشتاء الممطرة حين كنا صغارا نَتحَلّقُ حولك فتحكي لنا حكاياتك التي لا تنتهي؟... وهذا البيت الكبير من يَتفَقدُ جَنباتِه؟ وهذه النّبْتات في حديقته من يتفقّدُها ويمنحها الحياة كل صباح؟ من سَيُشرِف على التفاصيل الصغيرة في كل شيء؟ من سيدعو لي في غدواتي؟..
 هرِمْتُ فجأة يا أمي، وأنا التي بقيتُ في نظرك كل حياتي طفلة صغيرة..
إييه يا أمي.. 
         رحلتِ قبل موعد الرحيلْ..
         في مفترق الطرقْ
          بين سؤالينْ
         وجبالٍ من حنينْ
         تركْتِني أجوب المدى وأعْصِر حبات لؤلؤ
         لأروي العطاشى
         وقلبي عطشانْ
         وقلبي حزينْ..



هناك 8 تعليقات:

  1. سلمت يمينك مرثية رائعة أيقظت في الحزن الدفين اللهم ارزقها الجنة و ارزق ذويها الصبر و الحقنا بها مسلمين يا رب

    ردحذف
  2. نزلت دموعي وأنا أحس كلماتك يا مثال..
    رحم الله أمك صديقتي وأدخلها فسيح الجنان

    ردحذف
  3. مثال بكيت كما لم أبكي من زمن طويل
    تفتت قلبي وأنا أقرأ ما كتبته هنا
    الله يرحمها

    ردحذف
  4. إنك ترثين روحا مقدسة، روح الأم التي إن رحلت رحل الحنان معها.
    نص يحرك العاطفة ببراعة كاتبته.

    ردحذف
  5. رحم الله السيدة الوالدة واسكنها فسيح الجنان... ما قرات اروع من هذا يا مثال، تكتبين باحساس يخترق القلوب فنشعر بمثل ما شعرت تماما عزيزتي، تحيتي لك

    ردحذف
  6. رحم الله الوالدة واسكنها فسيح جنانه.
    حين نكتب ما بدواخلنا فعلا نبدع.
    تحياتي

    ردحذف
  7. مثال يامثال ابكيتنى وصدمتنى وتركتني اركض خلف كلماتك في يأس باحتة عن مثال التى اعرف المتفائلة الضحوكة البشوشة الحيوية التى لا ويقفها شيئ تمنيت الرحيل إليك ضمك او حت صفعك حتى تفيقي من صدمت الفقد، يشهد الله كم لامست حزنك وبكيت صبرك ورثيت تفاؤلك ودعينى اقول لك شيئا، صحيح ان اعظم الفقد فقد الابوين خاصة الام لكن لكى شمس في حياتك ( لينة) كفيلة بان تنير ليلك القاسي وتمنحكي بعضا من حنان لا يعوض لكنه كفيل بان ينسيك همك ولو قليلا دعي الماضي المكتوب يمر وحافظى على الذكرى الجميلة وقولي الحمد لله لانك كنت بارة بأمك خدمتها وملئت حياتها صغيرة وكبيرة ولله الحمد ،صحيح ان الحزن جعلك تبدعين اكثر لكن تخلصي منه غاليتى لانها سنة الحياة وان كانت قاسية، والحمد لله انها ماتت موتة يتمنها كل مسلم بيوم جمعة وفي رمضان ماشاء الله جعل الله مثواها الجنة وموفقة دوما بأذن الله واعتذر للاطالة لكنى لم استطع المرور في عجل امام براعة الابداع وعمق الاحساس وحدة الالم

    ردحذف